فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فما دام قد مات وهو مدين وليس عنده ما يسد الدين؛ فربما كان لا ينوي رد الدين، وأن نفسه قد حدثته بألا يرد الدين.
وفي فلسفة هذا الأمر نفسيًا نجد أن المقترض عندما يقترض شيئا كبيرا لا يستطيع أن يتجاهله أو ينساه، ثم لا يمر بذهن الذي أقرض أن فلانًا مدين، بل وقد تبلغ الحساسية بالذي قدم القرض ألا يمر على المقترض يريد أن يسدد القرض. أما إن تحرك قلب الدائن على المدين، وجلس يفكر في قيمة الدين، فليُفهم أن عند الذي اقترض بعض ما يسدد به الدين، أي أن المدين عنده القدرة على الوفاء بالدَّيْن أو ببعضه، ذلك أن الله لا يُحرج من يَجِد ويجتهد في السعي لسداد دينه.
{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا}. وقد يقول قائل: كان السياق اللفظي يقتضي أن يقول: «أقرضتم الله إقراضا»؛ لكن الحق جاء بالقرض الحسن؛ لأن الإقراض هو العملية الحادثة بين الطالب للقرض والذي يقرض.
وسبحانه يضع القرض الحسن في يده، ولنا أن نتصور ما في يد الله من قدرة على العطاء. ومثل ذلك قوله الحق: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17].
و{أنبتكم} تعبر عن عملية الإنبات، والأرض تخرج نباتا لا إنباتا. فمرة يأتي الله بالفعل ويأتي من بعد ذلك بالمصدر من الفعل؛ لأنه يريد به الاسم. و«أنبت» يدل على معنى وينشئ الله لكم منها نباتا.
وهكذا قال الله عن القرض: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وفي ذلك جواب للقسم، ومن بعد ذلك يقول سبحانه: {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقد تكلمنا من قبل كثيرا عن الجنات. ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل} ألم يكن الذي كفر من قبل ذلك قد ضل سواء السبيل؟ بلى، إنه قد ضل فعلا، ولكن الذي ضل بعد أن جاء ذكر تلك النعم والثواب فيها فالضلال أكثر. وكلمة {سواء} نقرأها في القرآن ونراها في الاستعمالات اللغوية؛ كمثل قوله الحق: {لَيْسُواْ سَوَاءً} [آل عمران: 113].
وسواء معناها وسط، ومتساوون. والمعاني ملتقية؛ لأنه عندما يكون هناك وسط فمعنى ذلك أن هناك طرفين. ومادام الشيء في الوسط فالطرفان متساويان، وعندما نقول: وسط، فهذا يقتضي أن نجعل المسافة بينه وبين كل طرف متساوية. ولذلك يجب أن ننتبه إلى أن كثيرًا من الألفاظ تستعمل في شيء وفي شيء آخر، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي.. أي اللفظ واحد والمعنى متعدد، مثال ذلك قوله الحق: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
والشطر هو الجهة. والشطر هو النصف. النصف هو الجهة بمعنى أن توجه إنسان ما إلى الكعبة يقتضي أن يكون الإنسان واقفًا في نقطة هي مركز بالنسبة لدائرة الأفق. وهذه النقطة بالنسبة لمحيط الأفق تقطع كل قطر من أقطارها في المنتصف تمامًا. إذن. فعندما يقول: الجهة، نقول: صدقت، وعندما يقول النصف. نقول: صدقت.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل} والقرآن قد نزل على أمة تعيش في البادية وطرقها بين الجبال، وقد يكون الطريق معبّدًا من ناحية، وقد يكون الطريق بين هاويتين. وقد يكون الطريق بين جبلين، ومن يأخذ بالأحوط فهو يمسي في الوسط. ولذلك قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: اليمين والشمال مضلة وخير الأمور الوسط؛ لأن الإنسان قد يتجه يمينًا فيقع. أو يتجه شمالًا فيقع؛ أو تقع عليه صخرة. ونجد الوالد ينصح ابنه فيقول له: امش ولا تلتفت يمينًا أو يسارًا واتجه إلى مقصدك. ونجد الحق يصف الطريق الذي يمشي عليه المؤمن يوم القيامة: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجحيم} [الصافات: 55].
وسواء الجحيم هو نقطة المنتصف في النار؛ أي أنه لا يستطيع الذهاب يمينًا أو شمالًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا...} الآية.
أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} يعني بذلك وبعثنا منهم اثني عشر كفيلًا، فكفلوا عليهم بالوفاء لله بما وثقوا عليه من العهود فيما أمرهم عنه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {اثني عشر نقيبًا} قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس وأربعة، فرجع النقباء كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن باقية. أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما، فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك، فضرب موسى الحجر لكل سبط عينًا حجر لهم يحملونه معهم، فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير. فنهاه الله عن سبهم، وقال: هم خلقي فلا تجعلهم حميرًا. والسبط كل بطن بني فلان.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أريحاء- وهي أرض بيت المقدس- فساروا حتى إذا كانوا قريبًا منه، أرسل موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ اثني عشر فجعلهم في حجزته وعلى رأسه حزمة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل ذلك، فلما خرج القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم ان أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله، لكن اكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد، فجعل كل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون فأخبروهما، فذلك حين يقول الله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} قال: شهيدًا من كل سبط رجل شاهد على قومه.
وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: النقباء، الأمناء.
وأخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {اثني عشر نقيبًا}. قال: اثني عشر وزيرًا وصاروا أنبياء بعد ذلك.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
وإني بحق قائل لسراتها ** مقالة نصح لا يضيع نقيبها

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله عز وجل: {اثني عشر نقيبًا} قال: هم من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة، فجاؤوا بحبة من فاكهتهم، فعند ذلك فتنوا، فقالوا: لا نستطيع القتال فاذهب أنت وربك فقاتلا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو صدقني وآمن بي واتبعني عشرة من اليهود لأسلم كل يهودي» كان قال كعب اثني عشر، وتصديق ذلك في المائدة {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا}.
وأخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود. أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اثنا عشر كعدة بني إسرائيل».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. أن موسى عليه السلام قال للنقباء الاثني عشر: سيروا اليوم فحدثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا إن الله: {معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وعزرتموهم} قال: أعنتموهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وعزرتموهم} قال: نصرتموهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: التعزيز والتوقير. النصرة والطاعة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيبًا}: {منهم} يجوز أن يتعلق ب {بَعَثْنا} وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ {اثني عشر} لأنه في الأصلِ صفةُ له، فلما قُدُّمِ نُصِب حالًا. وقد تقدَّم الكلامُ في تركيب {اثني عشر} وبنائه وحَذْفِ نونِه في البقرة فَأَغْنى عن إعادته. و{ميثاق} يجوزُ أَنْ يكونَ مضافًا إلى المفعول- وهو الظاهر- أي: إن الله تعالى واثَقَهم، وأَنْ يكونَ مضافًا لفاعله: أي: إنهم واثقوه تعالى. والمفاعلة يجوز نسبةُ الفعلِ فيها إلى كلِّ من المذكورَيْنِ. والنقيب: فعيل، قيل: بمعنى فاعِل مشتقًا من النَّقْب وهو التفتيس، ومنه: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} [ق: 36] وسُمِّي بذلك لأنه يفتشُ عن أحوالِ القوم وأسرارهم. وقيل: هو بمعنى مفعول، كأن القوم اختاره على علمٍ منهم تفتيشٍ على أحواله. وقيل: هو للمبالغةِ كعليم وخبير.
قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} هذه اللامُ هي الموطئة للقسم، والقسم معها محذوفٌ، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ أجيب سابقهما، إلا أن يتقدَّم ذو خبرٍ فيُجاب الشرطُ مطلقًا. وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} هذه اللام هي جوابُ القسم لسبقه، وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى قول الزمخشري أنَّ قوله: {لأكفرنَّ} سادٌّ مسد جوابي القسم والشرط، لا كما فهمه بعضُهم، وردَّ عليه ذلك. ويجوز أن يكون {لأكفرن} جوابًا لقوله تعالى قبل ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} لِما تَضَمَّنه الميثاقُ من معنى القسم، وعلى هذا فتكون الجملتان- أعني قوله: {وبعثنا} {وقال الله}- فيهما وجهان، أحدهما: أنهما في محلِّ نصبٍ على الحال، والثاني: أن تكونا جملتي اعتراض، والظاهرُ أنَّ قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} جوابُه: {لأكفرنَّ} كم تقدم، وجملةُ هذا القسمِ المشروطِ وجوابُه مفسرةٌ لذلك الميثاق المتقدم.
والتعزير: التعظيم، قال:
وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ ** ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ

وقيل: هو الثناء بخير، قال يونس، وهو قريب من الأول. وقيل: هو الردُّ عن الظلم قاله الفراء. وقال الزجاج: «هو الردع والمنع» فعلى القولين الأولين يكون المعنى: «وعَظَّمْتُموهم وأثنيتم عليهم خيرًا» وعلى الثالث والرابع يكون المعنى: وردَدْتم وردَعْتم سفهاءَهم عنهم. قال الزجاج: «عزرت فلانًا»: فَعَلْتُ به ما يردعه عن القبيح، مثل نَكَّلت، فعلى هذا يكون «عَزَّرْتُموهم» رَدّدْتم عنهم اعداءهم وقرأ الحسن البصري: {برسْلي} بسكون العين حيث وقع. وقرأ الجحدري: {وعَزَرْتموهم} خيفيفةَ الزاي وهي لغة. وقرأ في الفتح: {وتَعْزُوروه} بفتح حرف المضارعة وسكون العين وضم الزاي، وهي موافقة لقراءته هنا.
وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا} تقدَّم الكلام في {قَرْضا} وفي نصبه في البقرة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (13):

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه ما أخذ على اليهود من الميثاق ووعيده لهم إن كفروا بعد ذلك، ذكر أنهم نقضوا مرة بعد مرة- كما تقدم في سورة البقرة وغيرها كثير منه عن نص ما عندهم من التوراة- فاستحقوا ما هم فيه من الخزي، فقال تعالى مسببًا عما مضى مؤكدًا بما النافية لضد ما أثبته الكلام: {فبما نقضهم ميثاقهم} أي بتكذيب الرسل الآتين من بعد موسى عليه السلام، وقتلهم الأنبياء، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك لا بغير ذلك كما نقض بنو النضير فسلطكم الله عليهم بما أشار إليهم في سورة الحشر {لعناهم} أي أبعدناهم بعد أنا وعدناهم القرب بالكون معهم إن وفوا.